الحب الطاهر .. والزواج الزاهر

زواج زينب رضي الله عنها(١)



زينب بنت رسول الله الهاشمية القرشية، تزوجت في مقتبل عمرها من ابن خالتها هالة،

واسمه (أبو العاص بن الربيع) أحد رجال قريش المعدودين من مكة أصالةً ونسبًا، وتجارةً ومالًا،

كبرت زينب وازهرّت بين عيناه حتى نسج الحب نسيجه المحكم بينهما، وكان ذلك قبل بعثة النبي ﷺ.

كان الزوجان ينعمان بالحياة الزاهرة، والعشرةِ النضرة؛ فقد كانت تجمعهما أواصر القربى، ووشائج الأُلفة، حتى منَّ الله عليهما بالابنةِ أُمامة ثم بالابن عليًا.

كان أبا العاص يحب زوجته زينب حبًا جما، ومما يؤثر عنه أنه كان ينشد في بعض أسفاره ويقول:

ذكرتُ زينب لما ورَّكتْ إرَمًا *** قفلت سُقْيًا لشخصٍ يسكنُ الحرما

بنتُ الأمين جزاها الله صالحةً *** وكل بعلٍ سيُثنى بالذي علما

وبعد أن شع نور الإسلام وبُعث محمدًا نبيًا ورسولا، أسلمت زينب مع أبيها ﷺ، ممتثلة لأمر ربها،

بينما أبا العاص لم يرضَ أن يترك دينه!

حتى لا يقول قومه في مجالسهم التي تسنح فيها الذئاب الغبراء؛ أن أبا العاص ترك دين أبائه وأجداده

إن للحب لذة يجدها المحبون في قلوبهم ولكنها مهما بلغت لا تُعَدُّ شيئًا في جنبلذة الإيمان بالتوحيد، لذلك مهما كان حب زينب لزوجها كبيرًا إلا أن حب الله أعظم وأجل.

ليس في هذه الدنيا إلا لذة واحدة ليس لها حد تقف عنده هي لذة الإيمان، فالحب قد يتغير إلى البغض والكره، وقد يذهب بالموت أو الفقد؛ ولا يبقى للعبد إلا عمله الصالح.

هاجر النبي ﷺ إلى المدينة دار الهجرة، وهاجرن بناته رضوان الله عليهن؛ إلا زينب بقيت مع زوجها، إذ لم تكن شرائع الإسلام قد فرقت بينهما بعد.

زفرات الألم تخترق حجاب القلب

أحزنها فعله، وأدمى قلبها صنعه، حتى شكت الوحدة، وبكت الغربة والوحشة؛ فأسبل الجفن بقطراتٍ من الدموع حارقة، لكن ظلام الليل يأتي بعده ضياء النهار ولو بعد حين ،،،

بعد ليالي وأيام

قامت أولى الحروب بين كفار قريش والمسلمين في غزوة بدر الكبرى، وأثمرت الغزوة بانتصار المسلمين، وكان زوج زينب مع كفار قريش يحارب أباها الصادق المصدوق.

انتصر المسلمون في هذه الغزوة المباركة، ووقع زوجها أسيرًا عندهم، فلما علمت ذلك زينب وقد كانت في مكة؛

أرسلت تفديه بقلادة أمها خديجة التي أهدتها لها في يوم زفافها، لقد كانت هذه القلادة أغلى ما تملكه زينب كي تقدمه فداءً لزوجها.

وعندما عُرضَ للنبي ﷺ وأصحابه ما أرسلته زينب لفك أسر زوجها، شاهد النبي ﷺ القلادة!

فرقَّ لها رِقةً شديدة، وقال لصحابته الكرام:

“إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا”.

فقالوا: نعم يا رسول الله

فكَ الصحابةُ الأسير، ورجع إلى زوجته سالمًا، وقد كانت تنتظره وهي في غاية الشوق له، ولكن عندما وصل إليها أول ما نطق به:

 أنه سيرسلها إلى أبيها في المدينة، وذلك أن النبي ﷺ أمره أن تهاجر إليه ابنته.

 خرجت زينب من مكة قاصدة دار الهجرة، وقد أودعت في جنبات قلبها نسائم حسن الظن بالله، متجملة بأبهى رداء؛ الصبر والدعاء.

وقبل أن ترتحل:

 أباحَ لها زوجها بوفائه الصادق، السرمديُ الخالد، أنه لا يحب ولا يريد أن تكون له امرأة غيرها؛ فلا ريب أن الحديث مع رفيق الدرب، وبث الشجى، والبوح بالأسى، مما يلمُّ شعاث القلب.

حين يشمر خليل الوفاء، وأليف الإخاء لضمد أنين الألم بطيب الكلم، هكذا كان أبا العاص ،،،

ولابد أن يفعل ما أمره به النبي ﷺ، وكان قد وعده وعد الكرام أن يرسل ابنته له، وما كان الكريم في قريش أن ينكث عهده ولو لم يسلم.

ذهبت زينب إلى المدينة، وفارقت زوجها، وودعته وداع الأمل أن تلتقي به في ظلال الإسلام؛

فكم برقت بوارق السعد من الأثواب البالية، بريق النجوم النيّرة في السماء الغائمة!

ظلت زينب في المدينة ست سنوات بعيدة عن زوجها، تكابد شوقها إليه، ووجدها عليه.

وفي فجر ليلة من الليالي وطأت أقدام أبو العاص بن الربيع المدينة

ما السبب يا ترى؟ هل أسلم؟!

لا، ولكنه كان هاربًا من سرية من سرايا المسلمين، حيث أجهدوا عليه وأصابوا ما كان يحمله، فقد كان قادمًا من الشام بتجارته.

وأول ما قالت لقومها عندما أبصرته وشهدت عيناه:

أيها الناس إني أجرت أبا العاص بن الربيع

أيها الناس إني أجرت أبا العاص بن الربيع

أيها الناس إني أجرت أبا العاص بن الربيع

فقال النبي ﷺ مجيبًا وهو يسمع نداء ابنته، وكان ذلك قبيل صلاة الفجر:

“وقد أجرنا من أجارت”.

فكم في قلب المرأة الوفية لزوجها لفرطٍ من حنو ،،،

وما فعل ذلك النبي ﷺ إلا لعلمه بأصالة معدن أبو العاص بن الربيع، فقد ذكره مرةً في خطبةٍ له وأثنى على مصاهرته، فقال: “حدثني فصدقني، ووعَدني فوفى لي”[2].

لم يتزوج أبا العاص من بعد زوجته زينب، وكن نساء قريش أمام ناظريه، ولكن لا يطيب له العيش مع غيرها،

فقلبه قد ملكته بالحب زينبا ،،،

ولصموده على الشرك فرّق الإسلام بينهما[3]، فوهنت تلك العقدة، وانحلت وثائق العشرة.

أعاد النبي ﷺ له أموال تجارته، وارتحل إلى قومه مفارقًا المدينة حاملاً بضائع وأموال وأمانات قريش.

فلما وصل مكة؛ أودع الأمانات لأهلها، وأول ما قال:

“يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ بَقِيَ لأحد منكم عندي ‌مال ‌لم ‌يأخذه قَالُوا: لَا.

فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَجَدْنَاكَ وفِيًّا كَرِيمًا

قَالَ: فَأَنَا أشهدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَاَللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنْ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ إلَّا تخوّفي أن تظنوا أني أَرَدْتُ أَنْ آكلَ أموالَكم، فَلَمَّا أَدَّاهَا اللَّهُ إلَيْكُمْ وَفَرَغْتُ مِنْهَا أسلمتُ”.

شهد بشاهدة التوحيد أمام قومه، وأنقذ روحه من النار الحامية التي ماؤها الحميم، وظلها اليحموم، وعذابها الجحيم المقيم ﴿كَلَّاۤ إِنَّهَا لَظَىٰ نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ [المعارج: 15-16]

متخذًا الجنة بارقة المنى، والمنال المبتغى

 رجع إلى زينب مسلمًا، وكانت قد حُرمت عليه من قبل، ولكن بعدما أسلم ردها النبي ﷺ إليه.

مضى عام واحد على إسلامه

وبعد ذلك العام، ظهرت على زينب آثار المرض، وقيل إنه آثار سقط جنينها الذي حملته وسقط في يوم هجرتها إلى المدينة.

ولم يزل المرض يضج مضطجعها حتى توفيت في مخدع زوجها

ماتت زينب

بعدما حُرمت من زوجها ست سنين، وآنسته في آخر سنة من حياتها

كأن الليل لأبي العاص مختبئ في بردةٍ لا يُنير بفجر، وكأن النهار امتدَ في كبد السماء فلا يرى النجم من شدة الفقد!

لم يبقَ لأبي العاص من ذكراها سوى عليًا وأُمامة،

لعل شمسًا مُنيرة تسطع بنور جمالها، لا بحرارة لذعتها في جنات عدن.

وظل أبا العاص حيًا يذب عن الإسلام والمسلمين حتى مات في خلافة أبي بكر الصديق، ينظر إلى السماء مسطرًا فيها الأماني، وسوانح الحلم السامي.

أُقلبُ كل يومٍ ذكرياتي *** ليؤنسني زمانٌ كنتُ فيه

رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وحشرنا معهم في جنات النعيم.

 

وكتبته:

هيا بنت سلمان الصباح

الكويت حرسها ربي

ربيع الثاني 1445

[1] سيرتها كاملة كتبتها في كتابي: (قطف الرياحين).

[2] أخرجه البخاري في صحيحه برقم: (3110)، ومسلم في صحيحه برقم: (2449).

[3] حرّمت المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

طالبة العلم بين المنهج السلفي، ومتغيرات الزمان

الحجاب في كويتنا أصلٌ أصيل

ظلمُ ذوي القربى