نهاية الطلاوة في حكم سجود الحائض للتلاوة

 نهاية الطلاوة في حكم سجود الحائض للتلاوة





الحمد لله الذي شرع الأحكام رحمةً للعالمين، وجعلها موصلةً لكلِّ خيرٍ وتذكرةً للعابدين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، أما بعد:

فإن سجود التلاوة سنة على الصحيح من أقوال أهل العلم، وقد اتفق العلماء على مشروعية الطهارة لسجود التلاوة؛ إلا أنهم اختلفوا في حكم سجود الحائض للتلاوة، وقد كثر سؤال الأخوات الحريصات على تعلم أحكام الشرع عن حكم سجود الحائض للتلاوة، فعزمت على كتابة رسالة مختصرة مركزة تسلط الضوء على الآثار التي هي عمدة الاستدلال في هذه المسألة، لا سيما آثار الصحابة رضي الله عنهم؛ إذ قول الصحابي الذي ليس له مخالف حجة عند المذاهب الأربعة كما هو مقرر في الأصول.

🔲 صورة المسألة:

إذا قرأت الحائض القرآن سواء من حفظها أو عن ظهر قلب أو بحائل كالقراءة من الهاتف، ومرت بسجدة تلاوة، أو كانت تستمع لقارئ مر بسجدة تلاوة وسجد، فهل يُشرع لها السجود أم لا؟

جاء في حكم سجود الحائض للتلاوة عدة أقوال، ولكل قول أدلته ومناقشاتها، إلا إني لغاية الاختصار والتركيز على أقوى الأدلة في هذه المسألة وهي الآثار فإني سأكتفي بذكرها دون سائر الأدلة الأخرى المذكورة في المطولات الفقهية، والأقوال في هذه المسألة كالتالي:

القول الأول:


لا تسجد الحائض إذا مرت بسجدة تلاوة.

وبهذا قال بعض الصحابة وجماعة من السلف، منهم عثمان وابن عمر رضي الله عنهما، والنخعي وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري، وهو ما عليه المذاهب الأربعة.

ينظر أقوالهم:

١- الحنفية في: (بدائع الصنائع ١٨٦/١) (المبسوط ٤/٢)

٢- المالكية في: (الذخيرة ٤١٢/٢) (الفواكه الدواني ٢٩٦/١)

٣- الشافعية في: (روضة الطالبين ٣٢٠/١) (أسنى المطالب ١٩٧/١)

٤- الحنابلة في: (المغني ٣٥٨/٢) (حاشية الروض ٢٣٣/٢)

بل حُكي الإجماع على ذلك؛ فقد أخرج مالك في الموطأ برواية محمد بن الحسن برقم ٢٩٨، والبيهقي في الكبرى ٣٢٥/٢ عن نافع عن ابن عمر أنه قال: "لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر".

فقال ابن عبدالبر في الاستذكار ٥٠٩/٢:
"قوله: لا يسجد الرجل والمرأة إلا وهما طاهران، فإجماع من الفقهاء أنه لا يسجد أحد سجدة تلاوة إلا على طهارة".

وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ٤٠٨/٣، بسنده إلى إبراهيم النخعي أنه كان يقول في الحائض تسمع السجدة: "لا تسجد، هي تدع ما هو أعظم من السجدة؛ الصلاة المكتوبة".

وبسنده إلى حماد قال:
"سألت سعيد بن جبير وإبراهيم عن الحائض تسمع السجدة؟ فقالا: ليس عليها سجود، الصلاة أكبر من ذلك".

وبسنده إلى ابن جريج قال:
"قلت لعطاء: أرأيت إن مرت حائض بقوم يقرؤون المصحف فسجدوا تسجد معهم؟ قال: لا، قد مُنعت خيرا من ذلك: الصلاة".

وبسنده إلى الحسن البصري:
"في الحائض والجنب يسمعان السجدة، فقال: لا يسجدان".

القول الثاني:

أنها تومئ برأسها.

صح ذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وعن سعيد بن المسيب.

أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ٤٠٨/٣، بسنده إلى عثمان قال:
"تومئ برأسها إيماءً".

وأخرج بسنده إلى ابن المسيب قال:
"تومئ برأسها وتقول: اللهم لك سجدت".

📍نلحظ:

أنه يُفهم من أثر عثمان رضي الله عنه أنه لا يرى السجود الحائض.

القول الثالث:

أنه يجوز لها السجود.

قال بذلك بعض محققي المتأخرين كابن تيمية وتلميذه ابن القيم

واستدلوا بالاستصحاب، وبما جاء عن ابن عمر أنه سجد بلا وضوء.

وبقول الشعبي حينما سئل عن الرجل يقرأ السجدة وهو على غير وضوء، فقال:
"يسجد حيث كان وجهه".

📍والرد على هذا القول ومناقشة الاستدلال:

١- أن أثر ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة عن محمد بن بشر، قال: حدثنا زكريا بن أبي زائدة، قال أخبرنا أبو الحسن، عن رجل زعم أنه كنفسه، عن سعيد بن جبير، قال:
"كان عبدالله بن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء ثم يركب فيقرأ السجدة وما توضأ".

قلت غفر الله لي:
في سنده راو مبهم لا يُعرف، وثمت إعلال خفي للأثر:
 وهو أنه صح عن سعيد بن جبير أنه لا يرى السجود للحائض، وهذا مضعف لروايته هذه بأن ابن عمر يسجد بغير طهارة، أو أن هناك فرقًا بين سجود الحائض، وسجود غير المتوضئ كما سيأتي.

٢- أثر ابن عمر هذا علقه البخاري في صحيحه بقوله:
"وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء"
إلا أن في نسخ البخاري جاء في بعضها:
"وكان ابن عمر يسجد على وضوء"، دون ذكر كلمة (غير).
قال ابن حجر فتح الباري ٧١٥/٢:
"روى ابن أبي شيبة من طريق عبيد بن الحسن عن رجل زعم أنه كنفسه عن سعيد بن جبير قال كان ابن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ.
وأما ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن الليث عن نافع عن ابن عمر قال لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر فيجمع بينهما بأنه أراد بقوله طاهر الطهارة الكبرى أو الثاني على حالة الاختيار والأول على الضرورة".

٣- وأما أثر الشعبي فقد أخرجه ابن أبي شيبة ٤١٠/٣ بسند صحيح في باب:
(في الرجل يسمع السجدة وهو على غير وضوء).
قال ابن حجر في فتح الباري ٧١٥/٢:
"(فائدة) لم يوافق ابن عمر أحد على جواز السجود بلا وضوء إلا الشعبي أخرجه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح وأخرجه أيضا بسند حسن عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرأ السجدة ثم يسلم وهو على غير وضوء إلى غير القبلة وهو يمشي يومئ ايماء".

قلت غفر الله لي:
أما أثر أبي عبد الرحمن السلمي فليس فيه ذكر الوضوء البتة
فقد أخرجه ابن أبي شيبة ٤١٢/٣ بسنده إلى عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي قال:
"كان يقرأ السجدة وهو على غير القبلة وهو يمشي فيومئ برأسه ثم يسلم".
ولم يورده ابن أبي شيبة مع الآثار التي تفيد جواز السجود بلا وضوء في باب:
(الرجل يسجد السجدة وهو على غير وضوء)
بل أورده في باب:
(الرجل يقرأ السجدة وهو على غير القبلة).
فتنبه لذلك.

وثمت ملاحظة دقيقة وهي أن ابن أبي شيبة أخرج أثر ابن عمر هذا وأثر الشعبي في هذا الباب،

وأما آثار السلف المانعة وأثر عثمان وابن المسيب القائلين بالإيماء فأخرجها في باب:
(الحائض تسمع السجدة)

فمن خلال ذلك نفهم تفريق السلف بين حكم من به حدث أكبر ومن به حدث أصغر.


خلاصة الرد:
إذا سلمنا بهذا التفريق الذي يظهر من عمل المصنف وفهمه للآثار، فإني لم أقف إلى ساعتي هذه على أثر لأحد السلف نص فيه على جواز سجود الحائض، وأما سجود من به حدث أصغر فصح عن الشعبي، وأما أثر ابن عمر أنه سجد بغير وضوء ففي سنده من لا يعرف، وعلى فرض صحته فغايته يفيد جواز ذلك لغير المتوضئ، ولا ينسحب ذلك على من به حدث أكبر كالحائض؛ بل صح عن ابن عمر نهيه عن السجود بغير طهارة، وحمله بعضهم على الحدث الأكبر كما ذكر ابن حجر، وأما محمد الشيباني راوي الموطأ فقد فهم منه عموم الحكم في الحدث الأكبر والأصغر كما ظهر من تعليقه على الموطأ.


 ختامًا:
أن القول بجواز السجود وإن كان له وجاهة من جهة النظر، إلا أن قول عامة السلف وما صح عن الصحابة بل وحُكي فيه الإجماع من عدم سجود الحائض أسلم وأحوط.

والله تعالى أعلم.




وكتبته:

الفقيرة إلى فتح الفتاح

هيا بنت سلمان الصباح

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

طالبة العلم بين المنهج السلفي، ومتغيرات الزمان

الحجاب في كويتنا أصلٌ أصيل

ظلمُ ذوي القربى